بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سطوة القرآن
من أعجب أسرار القرآن وأكثرها لفتاً للانتباه: تلك السطوة الغريبة التي تخضع لها النفوس عند سماعه!
(سطوة القرآن) ظاهرة حارت فيها العقول.. حين يسري صوت القاري في الغرفة يغشى المكان سكينة ملموسة تهبط على أرجاء ما حولك.. تشعر أن ثمة توتراً يغادر المكان.. كأن الجمادات من حولك أطبقت على الصمت.. كأن الحركة توقفت.. هناك شيء ما تشعر به لكنك لا تستطيع أن تعبر عنه..
حين تكون في غرفتك – مثلاً - ويصدح صوت القارئ من جهازك المحمول، أوحين تكون في سيارتك في لحظات انتظار ويتحول صوت الإذاعة إلى عرض آيات مسجلة من الحرم الشريف؛ تشعر أن سكوناً غريباً يتهادى رويداً رويداً فيما حولك، كأنما كنت في مصنع يرتطم دوي عجلاته ومحركاته ثم توقف كل شيء مرة واحدة، كأنما توقف التيار الكهربائي عن هذا المصنع مرة واحدة فخيم الصمت وخفتت الأنوار وساد الهدوء المكان.
هذه ظاهرة ملموسة يصنعها (القرآن العظيم) في النفوس، تحدث عنها الكثير من الناس بلغة مليئة بالحيرة والعجب..
يخاطبك أحياناً شاب مراهق يتذمر من والده أو أمه؛ فتحاول أن تصوغ له عبارات تربوية جذابة لتقنعه بضرورة احترامهما مهما فعلا له، وتلاحظ أن هذا المراهق يزداد مناقشة ومجادلة لك.. فإذا استعضت عن ذلك كله وقلت له كلمة واحدة فقط: يا أخي الكريم؛ يقول تعالى: ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ? [الإسراء: 24] رأيت موقف هذا الفتى يختلف كليًّا.. شاهدت هذا بأم عيني، ومن شدة انفعالي بالموقف نسيت هذا الفتى ومشكلته، وعدت أفكر في هذه السطوة المدهشة للقرآن: كيف صمت هذا الشاب وأطرق لمجرد سماع قوله تعالى: ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ?! حتى نغمات صوته تغيرت.. يا ألله!! كيف هزته هذه الآية هزًّا؟!!
ومن أعجب أخبار سطوة القرآن قصة شهيرة رواها البخاري في صحيحه، وقد وقعت قبل الهجرة النبوية، وذلك حين اشتد أذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، فحينذاك أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، فخرج أبو بكر يريد الهجرة للحبشة، فلقيه مالك بن الحارث بن الدغنّة، وهو سيد قبيلة القارَة، وهي قبيلة لها حلف مع قريش، وتعهد أن يجير أبا بكر ويحميه لكي يعبد ربه في مكة، يقول الراوي: "فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين" [البخاري: 2297].
هذه الكلمة (فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم) من العبارات التي تطرق ذهني كثيراً حين أسمع تالياً للقرآن يأخذ الناس بتلابيبهم.. ومعنى يتقصّف أي يزدحمون ويكتظون حوله مأخوذين بجمال القرآن؛ فانظر كيف كان أبو بكر لا يحتمل نفسه إذا قرأ القرآن فتغلبه دموعه، وانظر لعوائل قريش كيف لم يستطع عتاة وصناديد الكفار عن الحيلولة بينهم وبين الهرب لسماع القرآن..
هذه الظاهرة البشرية التي تعتري بني الإنسان حين يسمعون القرآن ليست مجرد استنتاج علمي أو ملاحظات نفسانية؛ بل هي شيء أخبرنا الله أنه أودعه في هذا القرآن، ليس تأثير القرآن في النفوس والقلوب فقط؛ بل – أيضاً - تأثيره الخارجي على الجوارح.. الجوارح ذاتها تهتز وتضطرب حين سماع القرآن.. قشعريرة عجيبة تسري في أوصال الإنسان حين يسمع القرآن؛ يقول تعالى: ? اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ? [الزمر: 23].
لاحظ كيف يرسم القرآن مراحل التأثر، تقشعر الجلود، ثم تلين، إنها لحظة الصدمة بالآيات التي يعقبها الاستسلام الإيماني، بل والاستعداد المفتوح للانقياد لمضامين الآيات، ولذلك مهما استعملت من (المحسّنات الخطابية) في أساليب مخاطبة الناس وإقناعهم فلا يمكن أن تصل لمستوى أن يقشعر الجلد في رهبة المواجهة الأولى بالآيات، ثم يلين الجلد والقلب لربه ومولاه، فيستسلم وينقاد بخضوع غير مشروط.
هذا شيء يراه المرء في تصرفات الناس أمامه، جرِّب مثلاً أن تقول لشخص يستفتيك: هذه معاملة بنكية ربوية محرمة بالإجماع، وفي موقف آخر: قدم بآيات القرآن في تحريم الربا، ثم اذكر الحكم الشرعي، وسترى فارق الاستجابه بين الموقفين؛ بسبب ما تصنعه الآيات القرآنية من ترويض النفوس والقلوب لخالقها ومولاها، تماماً كما قال تعالى: ? تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ?..
وفي مقابل ذلك كله؛ حين ترى بعض أهل الأهواء يسمع آيات القرآن ولا يتأثر بها، ولا يخضع لمضامينها، ولا ينفعل وجدانه بها، بل ربما استمتع بالكتب الفكرية والحوارات الفكرية، وتلذَّذ بها وقضى فيها غالب عمره، وهو هاجر لكتاب الله، يمر به الشهر والشهران والثلاثة وهو لم يجلس مع كتاب ربه، يتأمله ويتدبره، ويبحث عن مراد الله من عباده، إذا رأيت ذلك كله؛ فاحمد الله يا أخي الكريم على العافية، وتذكر قوله تعالى: ? فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ? [الزمر: 22].
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، اللهم أحيي قلوبنا بكتابك، اللهم اجعلنا ممن إذا استمع للقرآن اقشعر جلده، ثم لان جلده وقلبه لكلامك، اللهم اجعلنا ممن إذا سمع ما أنزل إلى رسولك تفيض عيوننا بالدمع، اللهم اجعلنا ممن إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرُّوا سجداً وبكياً، اللهم إنا نعوذ بك ونلتجئ إليك ونعتصم بجنابك؛ أن لا تجعلنا من القاسية قلوبهم من ذكر الله.
الموضوعالأصلي :
سطوة القرآن المصدر :
منتديات هوفو نتhofonet.com