رمضان.. ولقاء الوداع
هبت نسائم رمضان، لتبشر بدنو اللقاء بعد طول غياب، فبدأ الفتى يستعيد ذلك المذاق الفريد الذي اعتاده منذ سنوات، فذرف دموع الشوق والحنين، لكنه قد اختلطت لديه تلك الدموع بدموع أخرى، إنها دموع الوداع، فقد اكتنفه شعور بأن ذلك اللقاء هو الأخير، ثم يعدم النفحات، فما من قيام وما من صيام وما من قرآن، وما من عود لما مضى، ولا يعوض ما ولى من الزمان وانقضى.
رحيل:
كانوا في رمضان الفائت يصفون أقدامهم معنا في القيام، ونسمع منهم النحيب والبكاء، يتناهى إلى أسماعنا دعواتهم في السجود، وإذا ما قنت الإمام في أواخر رمضان بأن يبلغهم الله الشهر الكريم أعوامًا عديدة، انطلقت كلمة "آمين" من قلوبهم، لا تكاد تلحظ حروفها مما اختلط بها من الآهات والأنين، أما اليوم وفي تلك الأيام التي يتزين فيها الكون لاستقبال الضيف الحبيب، تتلفت العين فلا تراهم، لقد رحلوا، أتاهم وعد: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ))[الأنبياء:35]، فرثتهم القلوب:
يا راحلين عن الحياة وساكنين بأضلعي هل تسمعون توجعي وتوجع الدنيا معي
أين صيامكم؟ أين قيامكم؟ أين تهجدكم؟ أين تلاوتكم؟ أين صدقاتكم؟
لقد كانوا إذًا أمواتًا يمشون على الأرض.
وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحى كل يوم وليلة بعيدًا عن الدنيا قريبًا إلى القبر
إلى من تخطاه الموت:
لقد تخطاك الموت، فتركك وأخذ غيرك، وليوشكن الموت أن يتخطى غيرك ويأخذك، يا جاهلًا بمنة الله: لقد مد الله أجلك، بلغك ما حرم غيرك، بلغك رمضان، بينما لم يمهلهم الزمان، منحك فرصة الصيام، والتهجد والقيام، والذكر والصدقات، وجني الحسنات، أوما زلت بنعمة الله عليك جاهلًا، فاسمع إني أعظك أن تكون غافلًا:
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من "بلى" قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: (فرأيت في المنام بينا أنا على باب الجنة، إذ أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي، فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد)، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: ((من أي ذلك تعجبون؟!))، فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟))، قالوا: بلى، قال: ((وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟))، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فما بينهما أبعد مما بين السموات والأرض))[صححه الألباني].
أرأيت فضائل رمضان، ونفحات رمضان؟! يا لها من منة عظيمة من الرحمن أن مد في عمرك حتى تدرك رمضان آخر، تتزود من بحر خيراته، وتتنسم عبير نفحاته.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الـفسـاد
فأد حقوقه قولًا وفعـلًا وزادك فاتخذه لـلمعـاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تـأوه نـادمًا يوم الحصاد
استقبال مودع:
لا شك في أن مشاعر الوداع إذا اقترنت بأي عمل ضاعفت في نفس صاحبها الاهتمام والحرص على اغتنام فرصة العمل، إنه قانون الفرصة الأخيرة، وهذا ما يتجلى لنا بوضوح في سيرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، فها هو يعظ أصحابه موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فاشتم فيه الصحابة رائحة الوداع، بعدما استشعروا عمقها، فقالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا.
ثم ها هو صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأمام تلك الجموع الغفيرة التي دخلت في دين الله أفواجًا، فجمع لهم في نصحه خلاصة جهده وكفاحه، حيث استشعر دنو الأجل، فقال: ((لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا))[زاد المعاد].
وهذه الحقيقة حملته على بذل أنفس النصائح للركع السجود: ((إذا قمت في صلاتك، فصل صلاة مودع))[صححه الألباني].
فما أحوجنا إلى ذلك المنهج في استقبال رمضان، استقبال مودع؛ يفرح ويستبشر بقدوم رمضان، وفي الوقت ذاته يستحضر مشاعر الوداع؛ لعله لا يلقاه بعد عامه هذا، ولكن ليس هذا خداعًا للنفس وسوقها بسوط الخيال، إنها الحقيقة الغائبة، والتي يطمس معالمها طول الأمل، أليس الموت يأتي بغتة؟! أيبعد ألا يمهلنا الموت لشهود رمضان المقبل، إنها نتيجة من اثنتين حياة أو موت، فمن طمع في الحياة فإنه مقامر ومغامر خاسر، ألا إن الموت قريب، ألا إن الموت قريب.
يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
حق الوداع:
صلاة مودع: يدخل في الصلاة لا ينتظر غيرها، فيرى الموت يحيق به، يرقب فراغه من صلاته.
قيام مودع: يودع سماع القرآن والتنعم به، يحرص على كل آية يسمعها تدبرًا؛ فعما قريب سيحرم ذاك النعيم، ويودع دمعة الخشوع التي تتلألأ على وجنته؛ فعما قريب سيفارقها، ويودع أحضان السحر؛ فعما قريب سيرحل من بين أحضانه.
صيام مودع: يدرك أنه لم يصم قبل ذلك، وأنها فرصته الأخيرة ليتمثل ما كان يخفى عليه من معاني الصيام، فللمرة الأولى والأخيرة سيصوم لسانه، وتصوم عيناه، وتصوم أذناه، وتصوم يداه، وتصوم قدماه، سيصوم من قبل ذلك قلبه، سيصوم كل منهم صومه، ويصرخ في وجه القبائح: هذا فراق بيني وبينك.
تلاوة مودع: يتحسر على تلاوة آية كان ذهنه عنها شاردًا، أو كان قلبه عنها غافلًا، يتحسر على فوات معاني القرآن عن قلبه، وكيف لم يفتح باب قلبه للنور، فيسابق الزمن فيما تبقى ليقتبس النور.
صدقة مودع: بين عينيه رهبة ((مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)) [الحاقة:28]، كيف استجاب لتخذيل نفسه الشحيحة عن الإنفاق، ولو حان أجله لتمنى أن يفتدي بماله جميعًا من عذاب الله، فينفق في سبيل الله عن طيب نفس.
أيها المودع:
"وداعًا رمضان" اجعلها شعار الاستقبال، خل عنك الأحلام وطول الآمال، فإنك لا تدري متى تنقضي الآجال، ويكون شهود رمضان من المحال، هذه حقيقة لا محض خيال، ستندم بعدها على خير زال، واعتبر بالراحلين فيهم العبرة والمثال
الموضوعالأصلي :
رمضان.. ولقاء الوداع المصدر :
منتديات هوفو نتhofonet.com